صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (35)
أبومسلم «يفضفض» لعيسي بن موسي
لم يكن أبو العباس السفاح راضيا عن توسع نفوذ أبي مسلم كما أن فكرة الخلاص منه لم تغب عن باله، وقد عرض عليه أبو جعفر ذلك بشكل صريح فقال له: أطعني واقتل أبا مسلم فإن في رأسه غدرة، فقال السفاح: وكيف نقتله، قال: أغافله وهو يتحدث معك فأقضي عليه، فقال له السفاح: وماذا عن أصحابه ورجاله وأنصاره؟.. قال أبوجعفر: إذا ألقينا إليهم رأسه ضعفوا وذلوا .
وبعد أن وافق السفاح علي الفكرة سرعان ماتراجع عنها، ربما لأنه كان متخوفا من عواقب وخيمة يتسبب فيها قتل أبي مسلم، أو ربما كان يشعر أن الدولة الوليدة مازالت في حاجة إلي دور أبي مسلم وقدراته وملكاته.
لكن الأمر بالنسبة لأبي جعفر كان محسوما تماما لدرجة أنه قال لوزيره ابي أيوب: لقد اعطيت الله عهدا لئن ملأت عيني من أبي مسلم لأقتلنه.
وكان المنصور قد استشار سلم بن قتيبة (ابن القائد الفاتح الكبير قتيبة بن مسلم) في أمر أبي مسلم، فقال له: يا أمير المؤمنين، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
وكان رد سلم مناسبا تماما لمشاعر المنصور تجاه أبي مسلم، فقال: حسبك يا سلم فقد حملتها أذن واعية.
ربما كان أبو مسلم يملك القدرة علي قلب الموازين في البيت العباسي بعد موت السفاح، لكنه لم يكن يملك الجرأة والمبادرة، فليس مهما في هذه اللحظات المفصلية أن تكون قويا وإنما الأهم أن تبادر إلي الخطوات التي تحقق هدفك وتضيق فيها الخناق علي عدوك وربما تقضي عليه تماما.
وهو نفس الخطأ الذي وقع فيه عبد الله بن علي عم المنصور فقد كان قويا ويملك جيشا جرارا لكنه لم يبادر إلى الأفعال التي تحقق له النصر السريع فلم يرسل فرقة تقبض علي أبي جعفر وهو عائد من رحلة الحج، ولم يرسل كتيبة من جيشه تسيطر علي بيوت الأموال في مدينة الأنبار وتشل قدرة المنصور علي العمل والتدبير، فكم من أقوياء أضاعوا فرصاً نادرة وكم من أصحاب مبادرات ومغامرات كتبوا التاريخ بجرأتهم ومباغتتهم لخصومهم.
كان أبو مسلم محبا لعيسي بن موسي ولي عهد المنصور وابن أخيه، لأن عيسي كان من أشد العباسيين تقديرا لدور الفتي الخراساني في بناء دولتهم.
وكان عيسي من فحول البيت العباسي شجاعة وحزما وحسن إدارة، وكان وحيد والده الذي مات وعيسي طفل صغير فكفله عمه الأكبر إبراهيم الإمام وأطلعه علي أمور كثيرة من أسرار الدعوة العباسية، وعندما انتزعوا الخلافة كان في التاسعة والعشرين من عمره.
وكانت قد ظهرت سريعا ملكات عيسي العقلية والإدارية، ما جعل ابراهيم يزوجه ابنته ويوصي به السفاح الذي ولاه الكوفة فضبطها.
وعيسي هو أيضا الذي حافظ علي بيوت الأموال في مدينة الأنبار بعد موت عمه السفاح، وفي غياب عمه المنصور الذي كان في رحلة الحج، وكان أبو مسلم يتمني في قرارة نفسه أن يكون عيسي هو الخليفة بعد السفاح وليس المنصور لأن منزلته ستظل كما كانت في عهد السفاح.
وهناك رواية ضعيفة، تقول إنه جس نبض عيسي في هذا الأمر، فقال: لا أغدر بعمي أبدا ورغم أنه ساند عمه ولم يغدر به إلا أن ذلك لم يمنع المنصور من أن يضع ابن أخيه في قائمة الأعداء وسيأتي دوره في الأحداث المقبلة.
هناك رواية وردت في كتاب المنتظم في التاريخ لابن الجوزي، تحدث أبو مسلم فيها مع عيسي بن موسي بأريحية كما يتحدث الصديقان الصفيان، قال ابومسلم: «مثلي ومثلك ومثل عمك أبي جعفر كمثل ثلاثة نفر كانوا في الصحراء فمروا علي عظام متفرقة، فقال أحدهم أستطيع أن أجمع هذه العظام، وقال الآخر أستطيع أن أكسوها لحما، وقال الثالث أستطيع أن أنفخ فيها الروح، فأفرزت هذه العظام أسدا، فقال الأسد إن هؤلاء الثلاثة هم الذين أخرجوني إلي الحياة وهم أيضا قادرون علي موتي فأكلهم، وهذا ما سيفعله عمك أبو جعفر، فإنه لن يتركني حتي يقتلني ولن يتركك حتي يخلعك أو يقتلك.
هذا السيناريو حدث بالضبط ما يجعلنا نتساءل: كيف سقط أبو مسلم في فخ المنصور طالما يعلم أن نهايته ستكون علي يديه؟
نجيب بأن أقدار الله غالبة ولا أحد يستطيع أن يهرب من قدره مهما خطط ودبر.
ونكمل في الحلقة المقبلة إن شاء الله